فصل: مسألة الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه أو يحرقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة رجل دفع إلى حارس ثيابا فقال الحارس قد جاءني إنسان فشبهته بك:

ومن كتاب أوله سلف دينار في ثوب إلى أجل:
قال ابن القاسم في رجل دفع إلى حارس ثيابا فقال الحارس: قد جاءني إنسان فشبهته بك، وظننت أنك هو فدفعتها إليه أيضمن؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال لا إشكال فيه، ولا كلام؛ لأنه أخطأ عليه في متاعه، فدفعه إلى من ذهب به إليه، وأموال الناس تضمن بالعمد والخطأ.

.مسألة يشتري النعل على أن يحذى له والقميص على أن يخاط له:

ومن كتاب أمهات الأولاد:
قال ابن القاسم: وكل ما كان يعرف وجهه بعدما يخرج، فلا بأس أن يشتريه، ويشترط عمله مثل أن يشتري النعل على أن يحذى له، والقميص على أن يخاط له، والظهارة للقلنسوة على أن يعمل له، أو القمح على أن يطحن له، فلا بأس بذلك كله؛ لأن ذلك كله قد عرف وجهه، وكذلك قال مالك، وقد مرض مالك مرة شراء القمح على أن يطحنه، وجل ما رأيت فيه السهولة، قال ابن القاسم: ولا بأس بذلك، ومن كتاب حبل الحبلة قال ابن القاسم: وكذلك التور يستعمله، قلت له: فهل يصلح له أن يبيعه قبل أن يستوفيه؟ قال: لا بأس به نقدا، أو إلى أجل كان اشتراؤه نقدا، أو إلى أجل، ومن كتاب البيع والصرف من سماع أصبغ قال أصبغ: قلت لابن القاسم: وكيف يكن التور فيها بعينه؟ قال: يريه الصفر والوزن، ويريه صفة ما يعمل، قلت: فما فرق بين هذا وبين الثوب الذي ينسج بعضه؟ قال: لأن الثوب لا يدرى كيف يخرج، قلت:
فالتور لا يدرى كيف يخرج، قال: إذا لم يخرج على ما وصف له يطيق أن يعيده في العمل، والثوب لا يطيق ذلك، وسئل عنه سحنون فقال له: الرجل يبتاع من رجل ثوبا على أن على البائع خياطته أو قمحا على أن عليه طحينه فأجازه مالك، قيل له: أرأيت إن باع هذا كله هل يضمن أم لا؟ قال: لا ضمان عليه ويحط عن المشتري بقدر الخياطة والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات، فيسلك به سبيل الصناع في الضمان، قلت: ولا تراه من وجه البيع والإجارة؟ قال: لا، قلت: ففسر لي هذا الأصل، فإني قد وجدته لابن القاسم وأشهب جميعا واحدا في الذي يشتري الظهارة على أن على البائع عملها أو حديدا على أن يعمل له منها قدرا أو نحاسا على أن يعالج له منها قمقما، أو عودا على أن ينحت له منه سرجا، فأجازا جميعا هذا الأصل وراياه من وجه البيع وعلى ذلك أجازه، وقد يحد البيع الأجرة في غير هذا من المسائل من قول مالك مكروه، من ذلك قول مالك في الذي يبتاع الغزل على أن على البائع حياكته والزيتون على أن عليه عصره، ونجد البيع والأجرة قد دخله كما دخل المسألة الأولى، فقال ذلك له، وقد خالفا فيها أصل قول مالك ومذاهبه التي عليها يعتمد، وهذا من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال؛ لأنه لا يدري ما اشترى، ولا كيف يكون خروج ما اشترط من ذلك العمل، وإنما أجازه مالك في العجين لخفته، والثوب يشترط خياطته مثله؛ لأن خروجه معلوم، وليس خروج ذلك مما يغيب عنه معرفته، وإن كان مالك قد عده ومرضه، فليس قولهما في ذلك عندي بشيء، وكل ما وجدت من هذا الأصل، فرده إلى مثله مالك في الحائك والزيتون على أن على البائع عصره، فإنها أصل لجميع ما ذكرت، وهي من أصح مسائلهم وأقيس قولهم، وكلما وجدت خلافا لها من جميع ما ذكرت فرده إليها، وأصل ما يقاس عليه هذا كله أن كل بيع وأجرة يكون في الشيء المبيع بعينه، فذلك بيع لا يجوز، وكل بيع وأجرة تكون الأجرة في غير الذي بيع، فلا بأس بذلك فوجدنا مسألة الحائك لأئمة هذا الأصل، فكل شيء تجده مما ضارعه فرده إليها، فإنها أصل ما سألت عنه، والبيع والشركة مخالف للبيع والأجرة، كل بيع وشركة تجده، فانظر فيه فإن كانت الشركة قد دخلت في البيع فذلك جائز، وإن كانت الشركة خارجة من البيع فلا خير فيه، فخذ هذين الأصلين على ما ذكرت، فإنه من جيد العلم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في كتاب حبل الحبلة: إنه لا بأس للذي استعمل التور أن يبيعه قبل أن يستوفيه نقدا، أو إلى أجل كان اشتراؤه نقدا، أو إلى أجل، معناه أنه استعمله عنده ليعمله له من صفر قد أراه إياه، فصار التور المستعمل على هذا الوجه سلعة بعينها اشتراها، فجاز له أن يبيعها من غير الذي اشتراها منه نقدا، أو إلى أجل كان اشتراها نقدا أو إلى أجل كما قال، لا اختلاف في جواز ذلك، ولا يجوز له أن يبيعها من الذي استعمله إياها إذا كان قد نقده الثمن وغاب عليه إلا بعرض أو بمثل ذلك الثمن أو أقل؛ لأنه إن باعها منه بأكثر من الثمن الذي دفع إليه بعد أن غاب عليه كان سلف دراهم في أكثر منها.
ولو كان استعمله التور على صفة مضمونا عليه من غير أن أراه إياه بعينه لجاز له أن يبيعه قبل أن يستوفيه من غيره بما شاء إذا تعجل على مذهب مالك؛ لأنه يحمل ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النهي عن ربح ما لم يضمن على الطعام خاصة خلاف قول عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره من العلماء ممن حمل نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربح ما لم يضمن على عمومه في الطعام وغيره، وإليه ذهب ابن حبيب، وهو مذهب ابن عباس وظاهر قوله في الموطأ، وإن كان مالك قد تأولها على مذهبه.
وما ذهب إليه سحنون من أن البيع والإجارة في الشيء للمبيع لا يجوز في شيء من الأشياء كان يعرف وجه خروجه أو لا يعرف هو مشهور معلوم من مذهبه، فإن وقع فسخ عنده في القيام ورد إلى القيمة بالغة ما بلغت في الفوات، يعلم ذلك من مذهبه؛ لقوله: وهذا من بيع الغرر الذي لا يجوز على حال، فإنه لا يرى ما اشترى ولا كيف يكون خروج ما اشترط، وقوله قبل ذلك في الذي ابتاع الثوب على أن على البائع خياطته أو قمحا على أن على البائع طحينه أنه إن ضاع، فلا ضمان عليه، ويحط عن المشتري بقدر خياطته والطحين من الثمن إلا أن يكون البائع ممن يعمل تلك الصناعات، فيسلك له سبيل الصناع في الضمان، إنما هو إعلام منه بالحكم في ذلك على مذهب مالك الذي يجيز البيع على هذا الشرط؛ لأنه إنما سئل عن تفسير مذهبه، وذلك بين من فحوى المسألة؛ لأنه أعلم في السؤال بإجازته لذلك، ثم قيل له: أرأيت إن ضاع هذا كله هل يضمن؟ يريد هل يضمن عند مالك على مذهبه في إجازة ذلك، فأجاب على الحكم في ذلك على مذهبه أعني مذهب مالك، فقال له السائل: ولا تراه من جهة البيع والإجارة، قال: لا، يريد ولا تراه أنت من جهة البيع والإجارة، فيجوز عندك، قال: لا.
والحكم في ذلك عنده على مذهبه أن يكون الضمان فيه من البائع على كل حال إن قامت البينة على التلف، وكان ممن لم ينصب نفسه لتلك الصناعة؛ لأنه بيع فاسد تلفت السلعة فيه بيد البائع قبل أن يقبضها المبتاع، فوجب أن تكون مصيبتها منه، ويفسخ البيع، ويكون على البائع على مذهب مالك إذا تلف الثوب عنده وهو صانع قد نصب نفسه للعمل قيمته يوم البيع غير معمول، ويفض الثمن الذي وقع البيع به على الثوب والعمل، فيكون للبائع منه ما ناب الثوب، فإن كان له فضل أخذه، وإن كان عليه أداه، وإن قامت بينة على التلف سقط عنه الضمان، ويفض الثمن أيضا على الثوب والعمل، فلم يكن للبائع إلا ما ناب الثوب، وقال ابن نافع في المدنية إن القيمة تكون فيه يوم ذهب، وقال عيسى عن ابن القاسم فيها يوم البيع: وهو الصحيح، ومذهب مالك الذي ذهب إليه ابن القاسم وأشهب من أن البيع والإجارة في نفس الشيء المبيع يجوز فيما يعرف وجه خروجه وفيما لا يعرف وجه خروجه لإمكان إعادته للعمل إن خرج على غير الصفة حتى يعمل على الصفة، ولا يجوز فيما لا يعرف وجه خروجه، وما لا يمكن إعادته للعمل هو الصحيح، إذ لا فرق في النظر والقياس بين أن تكون الإجارة في الشيء المبيع أو في غيره إذا علم وجه خروج ذلك الشيء من العمل، فيسلم بذلك البيع من الغرر في الأصل الذي أصله سحنون من الفرق بين الإجارة والشركة في أن يكونا خارجين من البيع أو داخلين فيه، لا يلتزمه ابن القاسم، ولا يقول به لا في الإجارة ولا في المشركة؛ لأنه يجيز أن تكون الإجارة داخلة في البيع على الشرط الذي ذكرناه، ولا يجيز الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر، ولا بالطعامين المختلفين، وإن استوت قيمتهما وإن كان البيع أو الصرف غير خارجين عن الشركة لما يدخل ذلك عنده من عدم المناجزة، وسيأتي بيان هذا في موضعه من الشركة إن شاء الله تعالى.

.مسألة الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه أو يحرقه:

ومن كتاب حبل حبله:
وسألت ابن القاسم، وابن وهب عن الصناع مثل الصباغ أو القصار أو غيره يفسد الثوب يقطعه، أو يحرقه فقال: هو ضامن، قلت: غر من نفسه أو لم يغر؟ قالا: نعم، وإن كان رب الثوب سار به إلى منزله فيعمله عنده في المنزل، فأحرق شيئا أو أفسده، فليس عليه ضمان إلا أن يكون غر من نفسه؛ لأنه أجير، قلت لابن القاسم: فإن كان أتاه بثوب في حانوته يكمده له، فكمده فلم يزل عنده حتى قطعه من غير تعد ولا تفريط، قال: إذا عمله في حانوته، فهو ضامن غر من نفسه أو لم يغر.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الصانع ضامن لما أفسده من الأعمال التي يعملها في داره أو حانوته غر من نفسه أو لم يغر صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن الأصل ما أخذ الأمتعة فيه على الضمان إلا أن يكون الفساد من أمر غالب كالنار، فيسقط عنه الضمان إلا أن يثبت عليه التفريط والتضييع حسبما مضى في رسم سن من سماع ابن القاسم أو ما فيه غرر من الأعمال على ما يأتي في نوازل أصبغ.
قال سحنون في كتاب ابنه: وإذا أخرج القصار الثوب أسود، فليعده حتى يجوده، فإن كان يفسد إذا رده ويسترخي، وينكسر وجهه وخيف عليه أن يحرق، فلا يرده وينظر، فإن أفسده ضمن قيمته، وإن كان الفساد فيه يسيرا ودي قيمة ذلك، وكان له قيمة العمل على دناءته ما لم يجاوز شرطه، وقال في الخياط: يقلب الثوب إلى داخل، فإنه يفتقه ويعيده، فإن كان الفتق ينقصه يخير ربه بين أن يضمنه قيمته يوم قبضه أو يأخذه بفتقه خياطته، وأما إذا صار الرجل بالصانع إلى داره، فيعمل عنده فلا ضمان عليه فيما أفسد في عمله إلا أن يغر من نفسه أو يثبت عليه أنه تعدى في عمله؛ لأنه أجير على ما قال مؤتمن، فهو محمول على غير التعدي حتى يثبت عليه التعدي، ويأتي على مذهب ابن الماجشون الذي ذكرناه أنه محمول على القصد إلى الإفساد حتى يثبت براءته من ذلك.
وقول ابن القاسم: إن الكماد إذا كمد الثوب في حانوته، فقطعه من غير تعد ولا تفريط إنه ضامن له، وإن كان صاحبه معه فهو عندي صحيح على أصولهم إذ لا تأثير فيما يلزمه من حكم الضمان؛ لكون صاحبه معه، وقد قال أصبغ في الكماد يكمد الثوب مع رب الثوب، فيصيبه خرق قال: إن كان الخرق الذي أصابه من كمد صاحب الثوب، فلا ضمان على الكماد، وإن كان من كمد الكماد فهو ضامن، وإن جهل فهو بينهما، وقع قول أصبغ هذا في بعض روايات العتبية، وقال ابن لبابة فيه: إنه جيد صحيح، وأدخله ابن أبي زيد في النوادر من العتبية وقال: إنه في الواضحة وكتاب ابن المواز، وقوله: وإن جهل فهو بينهما معناه: أنهما إن قالا جميعا: لا نرى من عمل من هو منا فيلزم الصانع ضمان نصفه، وأما إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه من عمله، فوجه الحكم في ذلك أن يتحالفا جميعا، فإن حلفا أو نكلا لزم الصانع غرم نصفه، فإن حلف الصانع ونكل رب الثوب سقط عنه الغرم، وإن نكل وحلف رب الثوب لزمه ضمان جميعه، ورأيت لابن دحون أنه قال: قول ابن القاسم إن الكماد ضامن للثوب إذا قطعه في كمده وصاحبه معه غير مستقيم، كل من حضر عمل متاعه في داره أو في دار الصناع أو حانوته فأجيح به بحرق أو قطع فلا ضمان على الصانع، وإنما يضمن إذا لم يحضر صاحب المتاع وكان العمل في دار الصانع أو في حانوته، وإنما قال ذلك ابن دحون قياسا على قولهم في الكراء على الطعام إنه لا يضمن إذا كان صاحب الطعام مع طعامه، وما أصاب في قياسه؛ لأن قطع الثوب قد علم أنه من عمل الكماد، ولا تأثير لحضور رب الثوب في ذلك، فهو بخلاف دعوى الكرا ضياع الطعام بالغيبة عليه إذا لم يكن رب الطعام معه.

.مسألة دفع ثوبا إلى رجل يخيطه له أو يرقعه أو يقصره فضاع:

قال عيسى: لو أن رجلا دفع ثوبا إلى رجل يخيطه له، أو يرقعه أو يقصره فضاع عند المدفوع إليه الثوب لم يكن عليه ضمانه إذا كان المدفوع إليه لم ينصب نفسه صانعا ولا خياطا ولا قصارا، وهو كالأمين لا يجب عليه الضمان حتى يكون رجل قد نصب نفسه للعمل فيجب عليه الضمان.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم أمهات الأولاد من قول سحنون على مذهب مالك، ومثله في المدونة، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الأصل في الصناع أن لا ضمان عليهم؛ لأنهم أجراء، وقد أسقط النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الأجير الضمان، فأخرج أهل العلم الصناع من ذلك لنصبهم أنفسهم لأعمال الناس، وأخذ أمتعتهم، وإذا لم ينصب نفسه لذلك بقي على الأصل وسقط عنه الضمان.

.مسألة قاطع رجلا يبني له بيتا عشرة أذرع في عشرة أذرع فبنى له خمسا في خمس:

ومن كتاب القطعان:
قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم عن مالك إنه قال في رجل قاطع رجلا يبني له بيتا عشرة أذرع في عشرة أذرع، فبنى له خمسا في خمس، وزعم أنه أمره بذلك، وأنكر ذلك صاحب البناء، وليست لهما بينة، قال: يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشرة في عشرة فإن حلف ألزمه صاحب البنيان، فإن أبى ونكل عن اليمين أحلف الآخر، وكان على البناء أن يبني له عشرة في عشرة، فإن حلف البناء ونكل صاحب البنيان عن اليمين أجبر على أخذ ما بنى له البناء، وإن حلفا جميعا تفاسخا وقيل للبناء: أقلع نقضك إلا أن يشاء صاحب البنيان أن يدفع إليه قيمة بنيانه منقوضا مطروحا بالأرض.
قال ابن القاسم: وقال مالك في رجل استأجر حائكا ودفع إليه غزلا ينسجه له ثوبا سبعا في أربع فنسجه ستا في ثلاث، وزعم أنه أمره بذلك، قال مالك: القول قول الحائك ويحلف، وإنما فرق بين الحائك والبناء؛ لأن الحائك صانع من الصناع يضمن ما دفع إليه، ويكون أولى بما دفع إليه من الغرماء إن فلس صاحب الثوب حتى يستوفي أجرته.
قال محمد بن رشد: قوله في مسألة البنيان إنهما يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يشاء البناء أن يبني له عشرا في عشر، يريد أو يشاء صاحب البنيان أن يأخذ ما بني له، وقوله: فإن حلف ألزمه صاحب البنيان، يريد أنه إن حلف البناء، ونكل صاحب البنيان عن اليمين لزمه أخذ ما حلف عليه البناء على ما نص عليه بعد، فمعنى قوله: ومقتضاه أنه إن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما، وإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا انفسخ الأمر بينهما وقيل للبناء: اقلع نقضك إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعا ويتفاسخان؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، صاحب البنيان يدعي على البناء بنيان عشرة في عشرة وهو منكر لذلك، فوجب أن يحلف على ذلك ليسقطه عن نفسه، والبناء مدع على صاحب البنيان يريد أن يلزمه ما لم يقر باشتراطه من خمسة في خمسة، وما هو منكر له، فوجب أن يحلف على ذلك لئلا يلزمه أخذه، فإذا حلفا جميعا أو نكلا جميعا لم يكن للبناء إلا بنيانه يقلعه إلا أن يشاء رب البنيان أن يأخذه بقيمته مقلوعا مطروحا بالأرض كما قال، والفرق بين مسألة البنيان، ومسألة الحائك، أن الحائك صانع من الصناع، فصاحب الثوب يرجع عليه في الغزل الذي دفعه إليه ليصنعه أنه صنع منه ما لم يأمره به كما لو دفع إليه خشبا ليعمل منه أبوابا، فلما عملها قال: لم آمرك إلا بتوابيت، فوجب أن يكون القول للحائك؛ لأنه مدعى عليه، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد رأيت لابن دحون في هذه المسألة كلاما فيه نظر لا يصح عند التفصيل إنما وجب التحالف، والتفاسخ؛ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء، فصار كرجل باع سلعة بثمن، فقال المشتري: أكثر من هذا القدر اشتريت منك، فوجب التحالف والتفاسخ، فأما لو كانت الحجارة والخشب والآلة من عند صاحب الدار كان القول قول البناء؛ لأنه أجير للبائع، فالقول قول صاحب الدار في الأجرة إلا أن يقبض الأجير أجرته، فيكون القول قوله أيضا كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة، ولذلك قال في الحائك: القول قوله؛ لأن الغزل من عند رب الثوب، والحائك إنما هو أجير ليس ببائع شيئا، ولو كان الغزل من عند الحائك كان سلما في ثوب موصوف، فإذا اختلفا في طوله وعرضه تحالفا وتفاسخا على الأصل الأول؛ لأنه بيع اختلفا في قدره، وقد قيل: إنه سلم في صفة فالقول قول المسلم إليه، وقيل: إنه ليس من باب السلم؛ لأن تأخير النقد فيه جائز، وإنما هو بيع، وقيل: المسألة حائلة لعدم الأجل وتأخير النقد.
قال محمد بن رشد: هذا نص قول ابن دحون، وهو كلام مدخول من ذلك أنه قال: إنما وجب التحالف والتفاسخ؛ لأن الأداة والحجارة والخشب من عند البناء فصار كمن باع سلعة وادعى المشتري أكثر منها.
ولو كان هذا معنى المسألة لما وجب أن يفسخ الجميع بالتحالف؛ لأن ما بنى البناء من ذلك قد أفاته بالبناء وجعل صاحب البقعة قابضا له؛ لكونه مبنيا بأمره في البقعة، فوجب أن يكون القول فيه قول المشتري وينفسخ الباقي على أصولهم في اختلاف المتبايعين في عدد السلع وقد قبض المشتري بعضها أو في المتكاريين في مدة كراء الدار وقد مضى بعضها.
ومن ذلك أنه قال: ولو كانت الحجارة والآلة والخشب من عند صاحب الدار كان القول قول البناء كالمتكاريين يختلفان في الأمد والأجرة، وذلك ما لا يصح؛ لأن المتكاريين متفقان على النوع مختلفان في قلة وكثرة، ومسألتنا إنما الاختلاف فيها في الأنواع، وإنما كانت تشتبه المسألتان لو قال البناء قاطعتك على بنيان بيت خمسة في خمسة، وقال صاحب الدار إنما قاطعتك على بنيان بيتين خمسة في خمسة خمسة في خمسة، وكذلك قوله: لو كان الغزل من عند الحائك كان سلما في ثوب إلى آخر قوله فيه من الأعراض ما لا يخفى لقوله فيه.
وقد قيل: إنه سلم على صفة، وقيل: ليس هو من باب السلم؛ لأن تأخير النقد فيه جائز، وقيل: إنها مسألة حائلة، إذ ليست بمسألة اختلاف، وإنما هي مسألة فيها تفصيل، وقد ذكرنا تحصيله في كتاب السلم من كتاب المقدمات مستوفى، فاختصار التكلم عليه هنا أولى، ولا فرق على ما بيناه فيما يوجبه الحكم من التحالف والتفاسخ بين أن تكون الخشب والحجارة والآلة من عند البناء أو من عند صاحب الأرض، إذ ليس البناء الذي يختلفان في صفة صنعته في النقص، فيختلف الحكم فيه بين أن يخرجه البناء وصاحب البقعة، وإنما هو بناء مضاف إليه، فإذا اختلفا في صفته وجب التحالف والتفاسخ فيه بينهما، ورجع النقص إذا تحالفا لمحرجه منهما، وبالله التوفيق.

.مسألة الخياط يدفع إليه ثوبه ليخيطه ثم أتاه بعد ذلك غيره بثوب آخر ليخيطه:

ومن كتاب النسمة:
قال ابن القاسم في الخياط يدفع إليه ثوبه ليخيطه، ثم أتاه بعد ذلك غيره بثوب آخر ليخيطه هل هو في سعة أن يخيط الآخر قبل الأول إذا لم يكن موعودا، ولكن كل واحد منهما يحب تعجيل ثوبه، قال: أحب إلي أن يبدأ بالأول، والأول أحقهما وأعدل، ولم أسمع في هذا بشيء، ولعله أن يكون واسعا إذا كان الشيء الخفيف الرقعة.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إن الاختيار له أن يقدم الأول فالأول من غير أن يكون ذلك واجبا عليه إذ لم يجب عليه عمله في يوم بعينه، فيكون بتأخيره عنه قد ترك واجبا عليه، وكذلك قال مطرف وابن الماجشون لا بأس على الصناع أن يقدموا من أحبوا ما لم يتعدوا ظلما ولا يقصدوا مطلا، وكذلك يقولان في الرحى، وقال سحنون في كتاب ابنه: لا يقدم صاحب الرحى أحدا على من أتى قبله إذا كانت سنة البلد أن يطحنوا على الدولة، وإن تحاكموا إلى السلطان في ذلك قضى بينهم بسنة بلدهم وليس قول سحنون بخلاف لقول غيره؛ لأن العرف كالشرط.

.مسألة صاحب الفرن إذا ذهب منه الخبز أيضمن:

من سماع محمد بن خالد من عبد الرحمن بن القاسم محمد بن خالد: سألت ابن القاسم عن صاحب الفرن إذا ذهب منه الخبز أيضمن؟ قال: نعم يضمن، قال ابن القاسم: وإن احترق من غير تضييع منه له فلا شيء عليه، قال ابن القاسم: والطحان ضامن لما دفع إليه من القمح يطحنه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الفران والطحان صانعان من الصناع، فيضمنون ما ادعوا تلفه وما أتى فساده على أيديهم، وإن لم يغروا إلا بما كان من أمر غالب كالنار أو ما فيه غرر من الأعمال، فلا يضمنون فيه إلا أن يغروا أو يتعدوا أو يفرطوا حسبما مضى القول فيه في رسم حبل حبلة من سماع عيسى، وإنما سقط عنهم ضمان ما علم أنه ليس من فعلهم، وأنه قرض فأر أو لحس سوس أو ما أشبه ذلك، قيل: إذا ثبت أنهم لم يضيعوا، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وقيل: إلا أن يثبت أنهم ضيعوا، وهو قول ابن حبيب، ويسقط عنهم ضمان ما أقام البينة على تلفه من غير سببهم، فروى ابن وهب عن مالك في موطئه في الذي يدفع إلى الخياط ثوبا، فيخيطه فيصيب بيت الخياط حريق، فيرى ثوب الرجل فيه يحترق، قال: على الخياط فيه الضمان إلا أن يكون سيل أو صاعقة، وقال في الرهن مثله، ومثله لأشهب في ديوانه ولمالك في كتاب ابن المواز وهو على قياس قوله في المدونة إذا قرض الفأر الثوب، وعلم أنه قرض الفار فهو ضامن إلا أن يثبت أنه لم يكن في ذلك سبب من أجل تضييع، وانظر على مذهب من يرى إذا ثبت أنه قرض الفأر أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أنه كان له في ذلك سبب من تضييع هل يقال: إذا وقع النار في بيته فرأى الثوب يحترق أنه لا ضمان عليه حتى يثبت أن النار من سببه لغالب العادة أن أحدا لا يحرق بيته ليصدق في ذهاب أمتعة الناس، أو يفرق بينهما بأن فساد الثوب قد علم أنه من قرض الفأر، والنار هو يقدر على عملها، فوجب أن يضمن حتى يعلم أنه من غير سببه، والأشبه أن لا فرق بينهما؛ لأنه قد علم إحراق النار للثوب كما قد علم قرض الفأر له، فإذا صدق أنه لم يكن له في قرض الفأر سبب من تضييع وجب أن يصدق أنه لم يكن له في النار سبب، والله أعلم.
ولا اختلاف بينهم أحفظه أنه إن احترق بيته أو سرق أو ذهب به السيل، فادعى أن المتاع تلف في جملة متاع بيته أنه لا يصدق، وبذلك جاءت الرواية عن مالك في الصناع تحترق منازلهم، فيدعون ذهاب أمتعة الناس، وقد مضى في رسم مسائل بيوع، ثم كراء من سماع أشهب القول في ضمان القصاع الفران وضمان الأوعية الطحان يما تعلق بذلك.

.مسألة الرجل يأتي الصانع بقطعة ذهب ويقول اقطع منها مثقالا:

سألته: عن الرجل يأتي الصانع بقطعة ذهب ويقول: اقطع منها مثقالا، واعمل بها خاتما واحبس ما بقي فيزعم الصانع أنه ذهب منه قبل القطع، أو بعد القطع أو يأتي إلى الصانع يستعمل منه سوارين، فيأتيه بسوار يعمل عليه، فيزعم أن السوار ذهب، هل تراه ضامنا؟ فقال: أما السوار، فقد تكلم مالك فيه ورأى الضمان عليه؛ لأن به تم استعمال ما استعمله إذا أمره أن يعمل عليه، وأما الذهب، فليس مثله ولا ضمان عليه فيه إلا المثقال الذي أمره بعمله، والقول قوله في أنه تلف قبل أن يقطعه أو بعد أن قطعه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول عليها مستوفى في رسم مسائل بيوع، ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.

.مسألة يأتي الخراز بخفين يستعمله في أحدهما شيئا فيزعم أنهما ضاعا:

وسئل أصبغ: عن الرجل يأتي الخراز بخفين يستعمله في أحدهما شيئا، فيقرهما عنده جميعا فيزعم أنهما ضاعا، فقال: لا يضمن إلا الواحد الذي استعمله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا يضمن إلا الذي استعمله فيه منهما، وإنما اختلف في صفة تقويمه عليه حسبما مضى القول فيه في رسم بيوع، ثم كراء من سماع أشهب فلا معنى لإعادته.

.مسألة الذي يدفع قمحه إلى الرجل فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة:

من سماع أصبغ من كتاب البيع والعيوب قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن الذي يدفع قمحه إلى الرجل، فيطحن على إثر النقش يفسده بالحجارة، قال: يضمنه مثل قمحه، وقاله أصبغ؛ إلا أن يكون علم بالصب بالأثر ورضي.
وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص عنه الدقيق، فقال: على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق إذا عرف.
قال محمد بن رشد: أما قول أشهب: إنه يضمنه مثل قمحه إذا طحنه إثر النقش، فأفسده بالحجارة فهو بين لا إشكال فيه؛ لأنه لما أفسد عليه قمحه في الطحين كان مخيرا بين أن يسقط عنه حكم، فيأخذ مفسودا ويودي إليه أجره على طحينه، وبين أن يغرمه مثل القمح الذي أفسد عليه، فإن أغرمه مثل القمح كان عليه أن يطحنه له على ما استأجره عليه؛ لأن مثله كعينه، وليس له أن يغرمه مثل الدقيق سالما من الحجارة، ولو رضي الطحان بذلك لم يجز؛ لأنه إذا فعل ذلك كان صاحب الطعام قد اشترى الدقيق الذي أخذ من الطحان بالقمح الذي وجب عليه، وبالأجرة التي يدفعها إليه فدخله القمح بالدقيق متفاضلا، ويجوز ذلك على مذهب عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره ممن يرى الطحن صنعة إذا قبض الدقيق، وكأنه ولم يؤخره، وأما إذا نقص الدقيق فقول ابن القاسم: إنه يكون على الطحان ضمان ما نقص ما يخرج مثل قمحه من الدقيق خلاف قوله في المدونة: إن القصار إذا ضاع عنده الثوب قبل العمل أو بعده فيلزمه قيمته يوم دفع إليه غير معمول، وليس لرب الثوب أن يضمنه قيمته معمولا ويؤدي إليه أجرة قصارته، فالذي يأتي في هذه المسألة على قول ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة أن يكون على الطحان من القمح ما يخرج منه قدر نقصان الدقيق، فإن كان القمح في التمثيل ثمانية أقفزة والثمانية الأقفزة تكون مطحونة يدفعها تسعة أقفزة، فلم يجد في الدقيق إلا ثمانية أقفزة ونقصه قفيز فيؤدي إليه ثمانية أتساع قفيز من قمح، ويكون عليه أن يطحنه له فيصير قفيزا مطحونا ويأخذ أجرته، فإن لم يطحنه نقص من أجرته على الطحين ما ينوبه، وذلك تسع الأجرة، ولا يجوز له على قياس هذا القول أن يأخذ منه ما نقصه من الدقيق؛ لأنه يكون إذا فعل ذلك قد ابتاع منه قفيز دقيق بثمانية أتساع قفيز من قمح وجبت له قبله وتسع الأجرة، فيدخله التفاضل بين القمح والدقيق، وقال ابن دحون في هذه المسألة: إنه كان الأصل أن يضمن ما نقصه قمحا؛ لأنه إنما أعطاه قمحا ويكون عليه طحن ما نقصه من القمح، استحب ابن القاسم ذلك، فجعله يضمنه دقيقا، هذا نص قول ابن دحون، وهو قول غير صحيح، إذ لو كان الواجب له عنده قمحا لما جاز له أن يأخذ منه دقيقا أكثر من القمح الذي وجب له وبما يجب له من أجرة الطحين، وإنما قال إنه يأخذ منه الدقيق؛ لأنه رأى أنه الواجب له على قياس ما ذكرناه من أن الثوب إذا ضاع عند القصار لزمه ضمانه مقصورا وكانت له قصارته، وفي كتاب محمد أن ذلك يلزمه إذا ضاع بعد القصارة، فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يؤدي قيمته يوم قبضه ولا أجرة له، وهو قوله في المدونة، والثاني: أنه يؤدي قيمته معمولا، ولا تكون له أجرته، وهو الذي يأتي على قول ابن القاسم في هذه المسألة، والثالث: التفرقة في كتاب ابن المواز بين أن يضيع قبل العمل أو بعده، وقد ذهب أبو إسحاق التونسي إلى قول ابن القاسم في هذه المسألة على قوله في سماع يحيى من كتاب كراء الرواحل والدواب في الكري يبيع الطعام الذي استكري على حمله في بعض الطريق، ولو قال: إن قوله في تلك المسألة على قياس قوله في هذه لكان أشبه؛ لأن هذه المسألة جارية على أصل فهي أشبه أن يكون أصلا لا فرعا لها يقاس عليها، ولا يدخل شيئا من هذا الاختلاف في المسألة التي قبلها لأشهب؛ لأنها مسألة أخرى، فقول العتبي وسئل عنه ابن القاسم إذا نقص الدقيق غلط، والصواب وسئل ابن القاسم إذا نقص الدقيق بإسقاط عنه، وقد مضى القول هناك في توجيه الرواية، فلا معنى لإعادته.